كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولابد أن نلحظ أن مشهد العري بعد ارتكاب المحظور، والخصف من ورق الجنة؛ ثم هذا التعقيب بتذكير بني آدم بنعمة الله في إنزال اللباس الذي يواري سوآتهم والرياش الذي يتزينون به، وتحذيرهم من فتنة الشيطان لهم لينزع عنهم لباسهم وريشهم كما نزعه عن أبويهم.. لابد أن نلحظ أن ذكر هذه الحلقة من القصة والتعقيب عليها على هذا النحو إنما يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي العربي المشرك. حيث كانواتحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا، ويحرمون أنواعًا من الثياب، وأنواعا من الطعام في فترة الحج. ويزعمون أن هذا من شرع الله، وأن الله قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم.. ومن ثم يجيء في استعراض قصة البشرية، وفي التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية.. وفي كل جاهلية في الحقيقة.. أليست سمة كل جاهلية هي التعري والكشف وقلة الحياء من الله وقلة التقوى؟
وهذا يدلنا على سمة من سمات المنهج القرآني جديرة بالتأمل.. إنه حتى القصص في القرآن لا يسرد إلا لمواجهة حالة واقعة بالفعل. ولأنه يواجه- في كل مرة- حالة معينة، فإن الحقيقة التي تذكر منه والحلقة التي تعرض في موضع من المواضع، تعرض بقدر الحالة الواقعة التي يواجهها النص حينذاك وفي جوها..
وهذا بالإضافة إلى ما قلناه عن المنهج القرآني في التعريف بسورة الأنعام- في الجزء السابع- يكون قاعدة هامة.. هي أن المنهج القرآني لا يعرض شيئًا لا تستدعيه حالة واقعة.. إنه لا يعرف اختزان المعلومات والأحكام- ولا حتى القصص- إلى أن يجيء وقت الحاجة الواقعة إليها..
والآن- وقبل أن تنطلق القافلة في طريقها، وقبل أن يواجهها الرسل بالهدى، وقبل أن يفصل السياق كيف تحركت العقيدة مع التاريخ البشري بعد آدم وزوجه وتجربتهما الأولى.. الآن يبادر بتصوير مشهد النهاية، نهاية المرحلة الكبرى، وذلك على طريقة القرآن الغالبة في عرض الرحلة بشطريها في دار الابتلاء وفي دار الجزاء، كأنما هي رحلة متصلة ممدودة.
وهنا نجد أطول مشهد من مشاهد القيامة، وأكثرها تفصيلًا، وأحفلها بالمناظر المتتابعة والحوار المتنوع.. وموقعه في السورة تعقيبًا على قصة آدم وخروجه من الجنة بإغواء إبليس له ولزوجه؛ وتحذير الله لأبنائه أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة؛ وإخبارهم بأنه سيرسل إليهم رسلًا يقصون عليهم آياته.. موقعه كذلك يجعله مصداقًا لما ينبى ء به أولئك الرسل. فإذا الذين أطاعوا الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة، وفتنوا عنها كما أخرج الشيطان أبويهم منها؛ وإذا الذين خالفوا الشيطان وأطاعوا الله قد ردوا إلى الجنة، ونودوا: {أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}.. فعاد المغتربون إلى دار النعيم!!!
والمشهد طويل لا نملك إثباته هنا في هذا التعريف المجمل وسنواجهه فيما بعد بالتفصيل.
والسياق يتخذ من هذا المشهد مناسبة للتعقيب بالإنذار والتذكير، وتحذير الذين يواجهون القرآن بالتكذيب، ويطلبون الخوارق لتصديقه، من سوء المصير: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}..
وبعد تلك الرحلة الواسعة الآماد، من المنشأ إلى المعاد، يقف السياق ليعقب عليها، مقررًا حقيقة الألوهية وحقيقة الربوبية في مشاهد كونية؛ تشهد بهذه الحقيقة؛ على طريقة القرآن في جعل هذا الكون كله مجالًا تتجلى فيه هذه الحقيقة بآثارها المبدعة، العميقة الإيحاء للقلب البشري حين يستقبلها بالحسالمفتوح والبصيرة المستنيرة. وهدف هذه الرحلة الأساسي في مشاهد الكون وأسراره هو تجلية الحقيقة الاعتقادية الأساسية: وهي أن هذا الكون بجملته يدين بالعبودية لله وحده، فالله هو ربه وحاكمه. فأولى بالإنسان أن لا يكون نشازًا في لحن الوجود المؤمن؛ وألا يشذ عن العبودية لرب هذا الكون الذي له الخلق والأمر.. وهو رب العالمين..
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره. ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. ادعوا ربكم تضرعًا وخفية. إنه لا يحب المعتدين. ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين. وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحابًا ثقالًا سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء؛ فأخرجنا به من كل الثمرات. كذلك نخرج الموتي لعلكم تذكرون. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.
والآن تمضي الرحلة، وتجري القصة، ويبرز الموكب الإيماني الجليل، يهتف بالبشرية الضالة، يذكرها وينذرها، ويحذرها سوء المصير. والبشرية الضالة تلوي وتعاند، وتواجه الدعوة الخيرة بالعناد والتمرد؛ ثم بالطغيان والبطش.. ويتولى الله سبحانه المعركة بعد أن يؤدي الرسل واجبهم من التذكير والإنذار، فيقابلوا من قومهم بالتكذيب والإعراض، ثم بالبطش والإيذاء. وبعد أن يفاصلوا قومهم على العقيدة، ويختاروا الله وحده ويدعوا له الأمر كله.
ويعرض السياق قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح وقصة لوط، وقصة شعيب.. مع أقوامهم، وهم يعرضون عليهم حقيقة واحدة لا تتبدل: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. ويجادلهم قومهم في إفراد الله سبحانه بالألوهية، ويستنكرون أن تكون لله وحده الربوبية. كما يجادلونهم في إرسال الله بشرًا من الناس بالرسالة! ويجادل بعضهم في أن يتعرض الدين لشؤون الحياة الدنيا، ويتحكم في التعاملات المالية والتجارية!- وذلك كما يحاول اليوم ناس من الجاهلية الحاضرة في هذه القضية بعينها بعد عشرات القرون، ويسمون هذا الجدل الجاهلي القديم تحررًا وتقدمية!- ويعرض السياق مصارع المكذبين في نهاية كل قصة.
ويلحظ المتتبع لسياق القصص كله في السورة أن كل رسول يقول لقومه قولة واحدة: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. ويتقدم لهم بالحقيقة التي استحفظه عليها ربه تقدم الناصح المخلص، المشفق على قومه مما يراه من العاقبة التي تتربص بهم وهم عنها غافلون. ولكنهم لا يقدرون نصح رسولهم لهم؛ ولا يتدبرون عاقبة أمرهم، ولا يستشعرون عمق الإخلاص الذي يحمله قلب الرسول، وعمق التجرد من كل مصلحة، وعمق الإحساس بضخامة التبعة..
ويكفي أن نثبت هنا ما ورد عن قصة نوح- أول القصص- وما ورد عن قصة شعيب، آخر هذه الجملة من القصص، التي يقف السياق بعدها للتعقيب:
{لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أو عجبتم أن جاءكم ذكرمن ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين}.
{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علمًا على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبًا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}
ويمثل هذان النموذجان بقية القصص بينهما. سواء في تصوير حقيقة العقيدة الواحدة التي أرسل الله بها رسله جميعًا لأبناء آدم- كل في قومه- أو في تلقي الملأ المستكبرين والأتباع المستضعفين لهذه الحقيقة. أو في وضوح هذه العقيدة وحسمها في نفوس الرسل وأتباعهم. أو في روح النصح والرغبة في هداية قومهم.. ثم في مفاصلتهم لأقوامهم عندما يتبين لهم عنادهم وإصرارهم الأخير ثم في إدارة الله- سبحانه للمعركة، وأخذ المكذبين بعد مفاصلة رسلهم لهم، والانتهاء من إنذارهم وتذكيرهم. وعتو المكذبين وإصرارهم على ما هم فيه.
وهنا يقف السياق وقفة للتعقيب. يبين فيها سنة الله في تعامل قدر الله مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون. إذ يأخذهم أولا بالضراء والبأساء، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب. فإذا لم تهزهم يد البأس وكلهم إلى الرخاء- وهو أشد فتنة من البأس- حتى تلتبس عليهم سنة الله، ولا ينتبهوا لها. ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون!..
وبعد بيان هذه السنة يهز قلوبهم بالخطر الذي يتهددهم في غفلاتهم. فمن يدريهم أن قدر الله يتربص بهم، ليجري فيهم سنته تلك؟ أفلا تهديهم مصارع الغابرين، وهم في ديارهم يسكنون؟
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون. ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء! فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون. أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون.. تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين..
بعد ذلك يعرض السياق قصة موسى مع فرعون وملئه، ومع قومه بني إسرائيل: وتستغرق القصة أكبر مساحة استغرقتها في سورة قرآنية؛ وتعرض منها حلقات شتى؛ ويقف السياق عند بعض الحلقات للتعقيب؛ كما يقف في نهايتها لتعقيب طويل حتى نهاية السورة.
ولقد وردت حلقات من قصة موسى عليه السلام قبل ذلك- حسب ترتيب النزول- في سور: المزمل، والفجر، وق، والقمر.. وكلها إشارات قصيرة. وهذه أول سورة بعد تلك السور تجيء فيها هذه الحلقات الطويلة، في هذه المساحة العريضة..
وقد شملت حلقة مواجهة فرعون بحقيقة العقيدة. وحلقة التحدي والسحرة- وهما كثيرتا الورود في السور الأخرى- وحلقة أخذ آل فرعون بالسنين والآفات وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم- التي لم تفصل إلا في هذه السورة- وحلقة إغراق فرعون والملأ من قومه.. ثم استمر السياق مع بني إسرائيل. وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلهًا- صنما- كالقوم الذين مروا عليهم بعد نجاتهم من فرعون وتجاوزهم للبحر! وحلقة ميقاته مع ربه وطلبه رؤيته ودك الجبل وصعقه وتنزيل الألواح عليه. وحلقة اتخاذ قومه للعجل في غيبته. وحلقة الميقات الثاني مع السبعين من قوم موسى وأخذ الصاعقة لهم حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وحلقة عصيانهم في دخول القرية وفي صيد السمك يوم السبت! وحلقة نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.. وكلها معروضة بتفصيل واسع، مما جعل القصة تستغرق حزبًا كاملًا من السورة.